إسرائيل وصراع البقاء- استراتيجية الردع الإقليمي والتوسع المحتمل

المؤلف: طلال صالح بنان08.27.2025
إسرائيل وصراع البقاء- استراتيجية الردع الإقليمي والتوسع المحتمل

منذ السابع من أكتوبر عام 2023، تخوض إسرائيل حربًا ضروسًا على جبهتين متشابكتين؛ الأولى، هي معركة بقائها كدولة ذات سيادة، والثانية، صراع محموم للحفاظ على أمنها القومي، الذي يعتمد بشكل جوهري على استعادة نظرية الردع الخاصة بها. هذه النظرية لا تكتمل إلا من خلال إعلان إسرائيل عن نفسها، بقوة لا تقبل الجدال، كقوة إقليمية مهيمنة، وإجبار دول وشعوب المنطقة على الاعتراف بسيادتها والإذعان لأوامرها. هذه المنطقة الشاسعة تتجاوز حدودها الجغرافية هضبة الأناضول في الشمال، وتمتد شرقًا لتخترق شمال إفريقيا (العربية) وصولًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وجنوبًا حتى بحر العرب والقرن الأفريقي والصحراء الكبرى على حدود المنطقة الاستوائية في إفريقيا، بما في ذلك شرقًا حتى شبه القارة الهندية. وشرقًا: منطقة شرق السويس مرورًا بشرق الفرات حتى آسيا الصغرى، على حدود الصين الغربية. هذه المناطق، في معظمها، أراضٍ عربية وإسلامية. هناك، في صلب نظرية الأمن القومي الإسرائيلية، ارتباط استراتيجي وثيق بين قضية وجودها واستدامة قوة ردع هائلة تغطي حدود كيانها المحلي، مع طوق أمني محكم يردع بعنف وبلا هوادة كل المناطق المحيطة مباشرة بكيانها (منطقة الطوق الأقرب)، الممتدة من النيل إلى الفرات (شرقًا وغربًا)، وبعمق استراتيجي من شرق السويس جنوبًا، ومن هضبة الأناضول شمالًا وحتى هضبة الجولان والهلال الخصيب وشمال شبه الجزيرة العربية جنوبًا. ومن المغرب نزولًا جنوب الصحراء المغربية وحتى موريتانيا، ومن شرق الفرات والقرن الأفريقي وبحر العرب، وبلاد فارس، وحتى أذربيجان شمالًا (السور الأبعد). دولة ضئيلة المساحة، تفتقر إلى الموارد الطبيعية الوفيرة وإلى أعداد بشرية غفيرة، لا تؤهلها للاضطلاع بدور القوة الإقليمية المهيمنة في منطقة مترامية الأطراف، غنية بمواردها البشرية، وزاخرة بثرواتها الطبيعية، وثرية بتراثها الحضاري العريق. هذه الدولة تسعى جاهدة لترسيخ وجودها في المنطقة بتاريخ يضاهي تاريخ المنطقة نفسها الجغرافي، ببعديه (البشري والتضاريسي). كيان إقليمي مشكوك في شرعية وجوده، لا يمتلك من المقومات لا الموارد ولا البشر ولا العمق التاريخي ولا الامتداد الجغرافي، ويتطلع إلى القيام بدور إقليمي مهيمن، وهو دور عجزت عن تحقيقه قوى عظمى عبر التاريخ المعروف، بدءًا من الهكسوس، ومرورًا بالإمبراطوريات القديمة، وصولًا إلى عهد الاستعمار الحديث. صحيح أن إسرائيل قد نجحت في تحييد دول الطوق (الأقرب) خلال نصف القرن الماضي، وكذا تعزيز معضلة وجودها باختراق دول السور (الأبعد)، سواء بالتواجد الفعلي والاعتراف بها، بل حتى التطبيع معها، من قبل جيوب في منطقة (السور الأبعد)، في الشمال الأفريقي والخليج العربي وجنوب البحر الأحمر والقرن الأفريقي. إلا أن إستراتيجيتها في فرض ردع فعّال، يُسَوِّق للقبول بوجودها والتطبيع معها، إذعاناً وليس قناعةً، قد تعرضت لاختبار صعب ومصيري، منذ أحداث السابع من أكتوبر عام 2023. قطاع صغير من أرض فلسطين (360 كلم مربع)، أثبت أن إستراتيجية الردع الإقليمي الإسرائيلي، أضعف من مواجهة قطعة أرض متطرفة من حدود فلسطين التاريخية، مكتظة بالسكان ومحاصرة، تهدد إستراتيجية الردع لديها، التي أخافت دول الطوق الأقرب، ونجحت نسبيًا في أن تُسَوّقَ لها قبولًا لوجودها من قبل دول (السور الأبعد). الخطر محدق في المرحلة القادمة بدول وشعوب المنطقة الوسطى العربية (العازلة) بين منطقتي (الطوق الأقرب والسور الأبعد). دول وشعوب هذه المنطقة الوسطى (العازلة) من الناحية الإستراتيجية، دون تطوير خطة إستراتيجية تمتلك قوة ردع مضادة، تصبح هذه المنطقة العربية الوسطى، ليس فقط منطقة نفوذ لإسرائيل ضمن إستراتيجية إسرائيل التوسعية، بل لضعفها (أمنيًا) ووفرة مواردها الطبيعية وكبر سوقها، بموقعها ضمن كماشة منطقتي (الطوق الأقرب والسور الأبعد)، تشكّل هذه المنطقة إستراتيجياً مجالًا حيويًا للتوسع الجغرافي للدولة العبرية. هذا التوسع الإسرائيلي المحتمل خارج نطاق فلسطين التاريخية، يتجاوز مجرد فرض وجود الدولة العبرية، لتكون هذه المنطقة العازلة (المنطقة الوسطى) ضمن حدود هذا الكيان غير المشروع، مما ستكون له أبعاد إستراتيجية وأمنية خطيرة، بتبعات ثقافية وحضارية وتاريخية ودينية ممتدة، ليتحوّل الجدل من مشروعية الكيان الإسرائيلي، إلى التوسع الإقليمي لإسرائيل بما يتجاوز واقع الاحتلال لفلسطين، إلى ادعاءات وأساطير تلمودية، تاريخية ودينية يهودية. إسرائيل وُجدت بمعونة وتأييد ودعم الغرب المسيحي، ضمن خليط يحمل من التناقضات التاريخية والدينية للثقافة (المسيحية التواراتية)، ضد التراث والعقيدة الإسلامية، في أرض الرسالات. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن وجود إسرائيل يمثّل طفرة عصرية حديثة (ثالثة) للحروب الصليبية، في عالم ترتفع فيه تكلفة الحروب إلى مستويات لم يسبق لها مثيل، قد يقود أي توتر ينتج عنه مستوى لو ضئيل من عدم الاستقرار، إلى نشوب حربٍ أممية، كفيلة بأن تنهي الحياة على وجه الأرض. أطماع إسرائيل التوسعية على حساب أراضي العرب، تضاريسَ وتاريخًا وبشرًا وثقافةً وحضارةً، تمثّل خطرًا استراتيجيًا (واضحًا وناجزًا وآنيًا)، ليس فقط على أمن العرب القومي، بل على مصير السلام في العالم بأسره، بما في ذلك أمن حلفائها في العالمَين القديم والجديد، عبر المحيطَين الأطلسي والهادي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة